الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار (نسخة منقحة)
.البراء: .تعريفه في اللغة: وقال ابن الأعرابي: بري إذا تخلص وبرئ إذا تنزه وتباعد وبرئ إذا أعذر وأنذر ومنه قوله تعالى: {براءة من الله ورسوله}. أي إعذار وإنذار. والبريء والبراء بمعنى واحد إلا أن البراء أبلغ من البريء. .والبراء في الاصطلاح: يقال بريء وتبرأ من الكفار إذا قطع الصلة بينه وبينهم فلا يواليهم ولا يحبهم ولا يركن إليهم ولا يطلب النصرة منهم. .مكانة البراء في العقيدة الإسلامية: قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية قال: يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} الآية، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا}، وقال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه}، ولهذا قَبِلَ رسولُ الله عذرَ حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد، ثم قال رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم}، هذا مع ما قبله من التهيج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ولهذا قال تعالى: {أن تؤمنوا بالله ربكم} أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد}، وكقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}. وقوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي} أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم وقوله تعالى: {تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر {ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} أي لو قدروا عليكم لما أبقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعل {وودوا لو تكفرون} أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيرًا، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهره فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضًا وقوله تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير}، أي قرابتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءًا ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما أسخط الله ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ولو كان قريبًا إلى نبي من الأنبياء. ثم قال رحمه الله تعالى: يقول تعالى لعباده المؤمنين الذي أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه}، أي وأتباعه الذين آمنوا معه {إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم} أي تبرأنا منكم {ومما تعبد ون من دون الله كفرنا بكم} أي بدينكم وطريقكم {وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا} يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم {حتى تؤمنوا بالله وحده}. أي إلى أن توحدوا الله فتعبد وه وحده لا شريك له وتدعوا ما تعبد وه معه من الأوثان والأنداد. اهـ. ويحسن أن نختم بحث الولاء والبراء بأبيات قالها الشيخ سليمان ابن سحمان حيث قال رحمه الله: .فصل الاستعانة بالكفار: .حكم الاستعانة بالكفار: الاستعانة يختلف حكمها باختلاف حالاتها بالنسبة للمستعان بهم والمستعان عليهم ونوع الاستعانة، فالاستعانة بالكفار تارة يكون المستعان به دولة كافرة، وتارة يكونون أفراد، وتارة تكون الاستعانة بهم في الحرب والقتال، وتارة تكون بالسلاح والمال والمستعان عليهم تارة يكونون دولة كافرة، وتارة تكون دولة مسلمة، وتارة تكون طائفة مسلمة كأهل البغي، ويختلف حكم الاستعانة بالكفار حسب هذه التقسيمات. أولًا: استعانة المسلمين بالدولة الكافرة على دولة كافرة. اتفق جمهور فقهاء الأمة وعلمائها على تحريم هذا النوع تحريمًا عامًا لا يستثنى منه شيء واستدل أصحاب هذا المذهب بأمور منها: أولًا: الكتاب العزيز. حيث شدد سبحانه وتعالى في النهي عن موالاة الكفار والركون إليهم واتخاذهم أولياء وأصدقاء في كثير من آيات الكتاب العزيز فمن ذلك قوله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}، وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}. وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالًا}. وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}، فهذه الآيات وأمثالها كثيرة في الكتاب العزيز، كلها تحذر من الركون إلى الكافرين وموالاتهم واتخاذهم أصدقاء، والاستعانة بالكفار لا تتم إلا بموالاتهم والركون إليهم. ثانيًا: من السنة المطهرة. ومنها ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «خرج رسول الله قِبَل بدر فلما كان بحـرَّة الوَبَرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جُرأة ونَجْدة ففرح أصحاب رسول الله حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله: جئت لأتبعك وأصيب معك، قال له رسول الله: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن استعين بمشرك قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي كما قال أول مرة قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قال ثم رجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة تؤمن بالله ورسوله قال نعم فقال له رسول الله انطلق». ومنها: ما أخرجه الطحاوي والحاكم عن أبي حميد الساعدي: «أن رسول الله خرج يوم أحد حتى إذا جاوز ثنية الوداع إذا هو بكتيبة خشناء، فقال من هؤلاء؟ فقالوا: هذا عبد الله ابن أبي بن سلول في ستمائة من مواليه من اليهود أهل قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام قال: وقد أسلموا؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين». ومنها: ما رواه الإمام أحمد والحاكم عن خبيب بن أساف قال: «خرج رسول الله في بعض غزواته فأتيته أنا ورجل قبل أن نسلم فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدًا ولا نشهده معهم، فقال: أأسلمتما قلنا: لا. قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين». هذه النصوص كما ترى غاية في الصحة والصراحة على تحريم الاستعانة بالمشركين في الحرب والقتال، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستعين بكافر أو يجيز الاستعانة بهم وهو يعلم هذه النصوص الصحيحة الصريحة. وكما ثبت بالكتاب والسنة منع الاستعانة بالكفار كما ترى فكذلك الصحابة رضوان الله عليهم ذهبوا إلى منع الاستعانة بالكفار ومن ذلك ما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إنكاره على أبي موسى حينما استعمل كاتبًا نصرانيًّا ذكر ذلك البيهقي عن أبي موسى: (أنه استكتب نصرانيًّا فانتهره عمر وقرأ: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} الآية. فقال أبو موسى: والله ما توليته وإنما كان يكتب فقال: أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب؟ فقال: لا تدنهم إذ أقصاهم الله ولا تأمنهم إذ خونهم الله ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله). وقد ذكر صاحب المذمَّة عن عمر رضي الله عنه غير هذا الخبر فقال: وكتب إليه بعض عماله (أي عمر) ليستشيره في استعمال الكفار فقال: (إن المال قد كثر وليس يحصيه إلا هم فاكتب إلي بما ترى فكتب إليه: لا تدخلوهم في دينكم ولا تسلموهم ما منعهم الله منه ولا تؤمنوهم على أموالكم وتعلّموا فإنما هي الرجال)، وكتب إلى عماله: (أما بعد فإنه من كان قِبَله كاتب من المشركين فلا يعاشره ولا يواده ولا يجالسه ولا يعتضد برأيه فإن رسول الله لم يأمر باستعمالهم ولا خليفته من بعده). وورد عليه كتاب معاوية بن أبي سفيان: (أما بعد: يا أمير المؤمنين فإن في عملي كاتبًا نصرانيًّا لا يتم أمر الخراج إلا به فكرهت أن أقلده دون أمرك) فكتب إليه: عافانا الله وإياك قرأت كتابك في أمر النصراني: (أما بعد: فإن النصراني قد مات والسلام)، وكان لعمر عبد نصراني فقال له: أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين فإنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم فأبى فأعتقه وقال: (اذهب حيث شئت) وكتب إلى أبي هريرة: أما بعد: فللناس نفره على سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك أقم الحدود ولو ساعة من النهار فإذا حضرك أمران أحدهما: أمر لله والآخر للدنيا فآثر الله على نصيبك من الدنيا فإن الدنيا تفقد والأخرى تبقى عد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح بابك وباشرهم وأبعد أهل الشرك وأنكر أفعالهم ولا تستعن في أمر من أمور المسلمين بمشرك وساعد على مصالح المسلمين لنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله سبحانه جعلك حاملًا لأثقالهم. كما ذكر أيضًا عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى جميع عماله في الآفاق: (أما بعد فإن عمر بن عبد العزيز يقرأ عليكم من كتاب الله {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ}، جعلهم نجسًا حزب الشيطان وجعلهم الأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا واعلموا أنه لم يهلك هالك قبلكم إلا بمنعه الحق وبسط يد الظلم وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى أنهم إذا قدموا بلدًا أتاهم أهل الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة والجباية والتدبير ولا خير ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله وقد كان لهم في ذلك مدة وقد قضاها الله، فلا أعلم أن أحدًا من العمال أبقى في عمله رجلًا متصرفًا على غير دين الإسلام إلا نكّلت به فإن محو عمالكم كمحو دينهم وأنزلوهم منزلتهم التي خصهم الله بها من الذل والصغار) اهـ. فإن قيل هذه النصوص التي أوردتموها كلها في رفضه عليه الصلاة والسلام الاستعانة بالأفراد أما عدم الاستعانة بالدولة الكافرة فلم يرد فيه نص يمنعه فالجواب أن يقال: أولًا: قوله: «لن أستعين بمشرك» مشرك هنا نكرة جاءت في سياق النفي واتفق علماء الأصول على أن النكرة في سياق النفي صيغة من صيغ العموم فيكون قوله «لن أستعين بمشرك» يعم كل مشرك فردًا كان أو دولة. ثانيًا: الضرر المتوقع والخطر المحتمل من الاستعانة بالفرد الكافر أخف من الضرر المترتب على الاستعانة بالدولة لأن الفرد يكون تحت سيطرة المسلمين ومراقبتهم له أما الدولة فإن قوتها وقدرتها على إيقاع الضرر بالمسلمين أكثر من قدرة الفرد المتوقع حصولها ضد المسلمين فعلى هذا يكون تحريم الاستعانة بالدولة الكافرة أولى من تحريم الاستعانة بالفرد الكافر وبهذا يتبين أن الاستعانة بالكفار لا تجوز مطلقًا أفرادًا كانوا أو دولًا. أما من جوز الاستعانة بالكفار من العلماء فقد استدل بأدلة واهية لا توصل إلى المدّعى لأنها إما ضعيفة أو غير صريحة في الدلالة أو متناقضة وإليك ما استدل به والجواب عنه: 1- عن أبي هريرة قال: «شهدنا مع رسول الله حنينًا فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالًا شديدًا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفًا: إنه من أهل النار. فإنه قاتل اليوم قتالًا شديدًا وقد مات. فقال النبي: إلى النار. فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت، ولكن به جراحًا شديدًا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه. فأخبر النبي بذلك فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله. ثم أمر بلالًا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر». قالوا: فهذا الذي قاتل مع رسول الله قد مات إلى النار فربما أنه كان في حقيقة أمره كافرًا أو أنه ارتاب وشك في الإيمان فمات كافرًا قالوا ويؤيد ذلك آخر الحديث وهو: (الرجل الفاجر) فالفجور عام ويشمل الفسق والكفر. 2- واشتهر عند أهل السير أن صفوان بن أمية شهد حنينًا مع النبي وكان مشركًا قال ابن حجر: (وقصته مشهورة في المغازي). 3- وجاء عن بعض أهل السير أن النبي استعان بناس من اليهود ولم يسهم لهم قال الإمام الترمذي يروى عن الزهري أن النبي أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه. 4- روى أبو داود بسنده قال: قال جبير: انطلق بنا إلى ذي مِخْبر- رجل من أصحاب النبي- فأتيناه، فسأله جبير عن الهدنة، فقال: سمعت رسول الله يقول: «ستصالحون الروم صلحًا آمنًا، وتغزون أنتم وهم عدوًَّا من ورائكم». 5- وروى البيهقي أن سعد بن مالك غزا بقوم من اليهود فرضخ لهم . وهذه الأدلة كما ترى لا تفيد جواز الاستعانة بالكفار لأنها ضعيفة لا توصل إلى المدعى إما في دلالتها وإما في ثبوتها فحديث أبي هريرة ليس صريحًا في أن الرجل الذي قاتل مع النبي كان كافرًا بل فيه عكس ذلك حيث قال أبو هريرة رضي الله عنه أنه (يدعي الإسلام) كما أن القصة لا تفيد أن النبي استعان به وإنما أذن له فقط في الحضور والقتال، وكذلك الشأن في قصة صفوان فالنبي لم يطلب منه أن يقاتل بل إنه هو بنفسه الذي شهد الوقعة ولم يثبت أنه قاتل وإنما كان خروجه مع المسلمين للتفرج والنظر فيما يحصل ولهذا لما انهزم المسلمون في أول وهلة فرح أبو سفيان بذلك وقال: والله لا يرد هزيمتهم البحر فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن اهـ. ثم إن الخبر الوارد في قصة صفوان على الرغم من أنه لم يتضمن الدلالة على أن صفوان قاتل مع النبي فإنه لا تثبت به حجة، وهو غير ثابت وفيه اضطراب شديد بمتنه وسنده، قال أبو عمر بن عبد البر: حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن محمد وسلمة بن شبيب قالا حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا شريك عن عبد العزيز ابن رفيع عن أمية ابن صفوان ابن أمية عن أبيه: «أن النبي استعار منه دروعًا يوم حنين فقال: اغصب يا محمد. فقال: بل عارية مضمونة». ثم قال ابن عبد البر قال أبو داود: هذه رواية يزيد ببغداد وفي روايته بواسط غير هذا قال أبو داوود وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم: قال أبو عمر: حديث صفوان هذا اختلف فيه على عبد العزيز بن رفيع اختلافًا يطول ذكره فبعضهم يذكر فيه الضمان وبعضهم لا يذكره وبعضهم يقول عن عبد العزيز عن ابن أبي مليكة عن ابن صفوان قال: «استعار النبي» لا يقول عن أبيه ومنهم من يقول عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل صفوان أو من آل عبد الله بن صفوان مرسلًا أيضًا وبعضهم يقول فيه عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن أناس من آل صفوان ولا يذكر فيه الضمان ولا يقول مؤداه بل عارية فقط والاضطراب فيه كثير ولا يجب عندي بحديث صفوان هذا حجة من تضمين العارية والله أعلم. وقال أبو محمد علي بن حزم: أما خبر دروع صفوان فإنا رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنبأنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام أنبأنا يزيد بن هارون أنبأنا شريك هو ابن عبد الله القاضي عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه: «أن رسول الله استعار منه يوم حنين أدرعًا فقال: غصب يا محمد. قال بل عارية مضمونة» شريك مدلس للمنكرات إلى الثقات، وقد روى البلايا والكذب الذي لا شك فيه عن الثقات . وقال أيضًا رحمه الله: ومن طريق مسدد أنبأنا أبو الأحوص حدثنا عبد العزيز بن رفيع عن عطاء بن أبي رباح عن ناس من آل صفوان بن أمية: «استعار رسول الله من صفوان سلاحًا فقال: أعارية أم غصب؟ قال: بل عارية ففقدوا منها درعًا فقال رسول الله إن شئت غرمناها لك فقال يا رسول الله إن في قلبي من الإيمان ما لم يكن يومئذ». هذا عند ناس لم يسموا. ومن طريق أحمد بن شعيب أنبأنا أحمد بن سليمان حدثنا عبيد الله ابن موسى أنبأنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية: «أن رسول الله استعار من صفوان بن أمية دروعًا فهلك بعضها فقال رسول الله: إن شئت غرمناها لك فقال: لا يا رسول الله» إسرائيل ضعيف وقال في ص17 وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن إياس بن عبد الله بن صفوان: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أراد حنينًا قال لصفوان هل عندك سلاح. قال: عارية أم غصبًا؟ قال لا بل عارية فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعًا فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها فقال له رسول الله إنا فقدنا من أدرعك أدرعًا فهل نغرم لك فقال: لا يا رسول الله إن في قلبي اليوم ما لم يكن» فهذا مرسل. اهـ. أما خبر خروج يهود بني قينقاع مع الرسول وأنه أسهم لهم أو رضخ لهم فهالك لأسباب: أولًا: أن الخبر من مراسيل الزهري ومعلوم أن مراسيل الزهري ضعيفة. ثانيًا: أنه ورد ما يعارضه فقد روى الطحاوي والحاكم: هذا الحديث من طريق الفضل ابن موسى السيناني شيخ إسحاق بن راهويه قال الطحاوي حدثنا عبيد بن رجال قال حدثنا محمد بن عمرو عن سعد ابن المنذر بن أبي حميد الساعدي عن جده الساعدي قال: «خرج رسول الله يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا هو بكتيبة خشناء فقال: من هؤلاء فقالوا بنو قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام وقوم عبد الله بن أبي بن سلول فقال: أسلموا. فأبوا قال: قل لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين». قال ممليه عفا الله عنه: والعجب ممن ذهب من العلماء إلى جواز الاستعانة بالكفار معتمدًا في ذلك على هذه الآثار والمراسيل الضعيفة والمضطربة ويعرض عن ما خُرِّج في صحيح مسلم والسنن ومسند الإمام أحمد وغيره من رفضه الاستعانة بالمشركين، إننا إذا سلكنا طريق الترجيح وجدنا أن حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه مسلم في صحيحه وما وافقه من آثار أخرى أرجح يقينًا من تلك المراسيل المضطربة السند والمتن كما أسلفنا. قال ابن عبد البر: وأما شهود صفوان بن أمية مع رسول الله حنينًا والطائف وهو كافر فإن مالكًا قال لم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالك: ولا أرى أن يستعين بالمشركين على قتال المشركين إلا أن يكونوا خدمًا أو نوتيه . وقد ناقش الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أدلة القائلين بالجواز فتكلم على مرسل الزهري وبين عدم صحة دلالته على المسألة فقال رحمه الله ما نصه: أما مسألة الاستنصار بهم فمسألة خلافية والصحيح الذي عليه المحققون منع ذلك مطلقًا وحجتهم حديث عائشة وهو متفق عليه، وحديث عبد الرحمن بن حبيب وهو حديث صحيح مرفوع اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص والقائل بالجواز احتج بمرسل الزهري وقد عرفت ما في المراسيل إذا عارضت كتابًا أو سنة ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشَرَطَ أيضًا أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقوله في هذه القضية واشترط كذلك ألا يكون له دخل في رأي ولا مشورة بخلاف ما هنا كل هذا ذكره الفقهاء وشراح الحديث ونقله في شرح المنتقى وضعف مرسل الزهري جدًا وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام. قال أيضًا ما نصه: الشبهة التي تمسَّك بها من قال بجواز الاستعانة هي ما ذكرها بعض الفقهاء من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة وهو قول ضعيف مردود مبني على آثار مرسلة تردها النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية، ثم القول بها على ضعفها مشروط بشروط نبه عليها شراح الحديث ونقل الشوكاني منها طرفًا في المنتقى، منها: أمن الضرر والمفسدة وألا يكون لهم شوكة وصولة وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة وأيضًا ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك، وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة فهو قول فاسد لا أثر فيه ولا دليل عليه إلا أن يكون محض القياس وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع وعدم الاجتماع في مناط الحكم اهـ. قال ممليه عفا الله عنه: والضرورة التي ترد في بعض كلام الفقهاء المجيزين الاستعانة بالكافر هي الضرورة التي تتعلق بالدين ومصلحة الإسلام والمسلمين. أما الضرورة التي تتعلق بحكم الحاكم وحماية كرسيه وسلطته فإنها لا تبيح الاستعانة بالكفار حتى عند القائلين بجواز الاستعانة بهم للضرورة. قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعليقًا على كلمة الضرورة التي جاءت في كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: غلط صاحب الرسالة- يقصد بصاحب الرسالة من رد عليه الشيخ عبد اللطيف- في معرفة الضرورة فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر من رياسته وسلطانه وليس الأمر كما زعم ظنه بل هي ضرورة الدين وحاجته إلى من يعين عليه وتصلح به مصلحته كما صرح به من قال بالجواز وقد تقدم ما فيه والله أعلم اهـ. ومن الأئمة الكبار الذين ذهبوا إلى عدم جواز الاستعانة بالكفار في جميع الأحوال الشيخ ابن مفلح في الآداب الشرعية حيث ذكر كلامًا طويلًا في هذا الباب ضمنه مقتطفات من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب اقتضاء الصراط المستقيم حيث قال: فصل في الاستعانة بأهل الذمة. قال بعض أصحابنا: ويكره أن يستعين مسلم بذمي في شيء من أمور المسلمين مثل كتابة وعمالة وجباية خراج وقسمة فيء وغنيمة وحفظ ذلك ونقله إلا ضرورة قال في الرعاية الكبرى ولا يكون بوابًا ولا جلادًا ونحوها. وعن أبي موسى الأشعري أنه اتخذ كاتبًا نصرانيًّا فانتهره عمر بن الخطاب . وعن عمر أيضًا أنه قال: لا ترفعوهم إذ وضعهم الله، ولا تعزوهم إذ أذلهم الله. ولأن في الاستعانة بهم في ذلك من المفسدة ما لا يخفى وهي ما يلزم عادة أو ما يفضى إليه من تصديرهم في المجالس، والقيام لهم وجلوسهم فوق المسلمين وابتدائهم بالسلام أو ما في معناه ورده عليهم على غير الوجه الشرعي وأكلهم من أموال المسلمين ما أمكنهم لخيانتهم واعتقادهم حلها وغير ذلك. ولأنه إذا منع من الاستعانة بهم في الجهاد مع حسن رأيهم في المسلمين والأمن منهم وقوة المسلمين على المجموع لاسيما مع الحاجة إليهم على قول فهذا في معناه وأولى للزومه وإفضائه إلى ما تقدم من المحرمات بخلاف هذا، وبهذا يظهر التحريم هنا وإن لم تحرم الاستعانة بهم على القتال، وقد نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتخذوا الكفار بطانة لهم فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}. وبطانة الرجل تشبيهه ببطانة الثوب الذي يلي بطنه لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون عليه بخلاف غيرهم، وقوله {من دونكم} أي من غير أهل ملتكم. ثم قال تعالى: {لا يألونكم خبالًا}. أي لا يبقون غاية في إلقائكم فيما يضركم والخبال الشر والفساد، {ودوا ما عنتم}. أي يودون ما يشق عليكم من الضر والشر والهلاك، والعنت المشقة يقال فلان يُعنِتُ فلانًا أي يقصد إدخال المشقة والأذى عليه. {قد بدت البغضاء من أفواههم}. قيل بالشتم والوقيعة في المسلمين ومخالفة دينكم، وقيل باطلاع المشركين على أسرار المسلمين. {وما تخفي صدورهم أكبر} أي أعظم، {قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون}. قال القاضي أبو يعلى من أئمة أصحابنا وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة ولهذا قال الإمام أحمد رضي الله عنه لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب، وقد جعل الشيخ موفق الدين رحمه الله هذه المسألة أصلًا في اشتراط الإسلام في عامل الزكاة فدل على أنها محل وفاق. وقال الإمام أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب وقد سأله يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال: لا يستعان بهم في شيء. فانظر إلى هذا العموم من الإمام أحمد نظرًا منه إلى رديء المفاسد الحاصلة بذلك وإعدامها وهي وإن لم تكن لازمة من ولايتهم ولا ريب في لزومها فلا ريب في إفضائها إلى ذلك، ومن مذهبه اعتبار الوسائل والذرائع وتحصيلًا للمأمور به شرعًا من إذلالهم وإهانتهم والتضييق عليهم وإذا أمر الشارع عليه الصلاة والسلام بالتضييق عليهم في الطريق المشتركة فما نحن فيه أولى هذا مما لا إشكال فيه، ولأن هذه ولايات بلا شك، ولهذا لا يصح تفويضها مع الفسق والخيانة، والكافر ليس من أهلها بدليل سائر الولايات وهذا في غاية الوضوح، ولأنها إذا لم يصح تفويضها إلى فاسق فإلى كافر أولي بلا نزاع ولهذا قد نقول يصح تفويضها إلى فاسق إما مطلقًا أو مع ضم أمين إليه يشارفه كما نقول في الوصية ولأنه إذا لم تصح وصية المسلم إلى كافر في النظر في أمر أطفاله أو تفريق ثلثه مع أن الوصي المسلم المكلف العدل يحتاط لنفسه وماله وهي مصلحة خاصة يقل حصول الضرر فيها فمسألتنا أولى هذا مما لا يحتاج فيه إلى تأويل ونظر والله أعلم. وقال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا}. وهذا من أعظم السبيل استدل الشيخ وجيه الدين وغيره من الأصحاب بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يكون عاملًا في الزكاة وقد قال أصحابنا في كاتب الحاكم لا يجوز أن يكون كافرًا واستدلوا بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة}. وبقضية عمر على أبي موسى. وقال الشيخ تقي الدين في أول الصراط المستقيم في أثناء كلام له: ولهذا كان السلف يستدلون بهذه الآية على ترك الاستعانة بهم في الولايات فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى قال قلت لعمر إن لي كاتبًا نصرانيًّا قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض}. ألا اتخذت حنيفيًّا؟ قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله. انتهى كلامه. ورواه البيهقي وعنده فانتهرني وضرب على فخذي وعنده أيضًا فقال أبو موسى والله ما توليته إنما كان يكتب. فقال عمر له أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب؟ لا تدنهم إذا أقصاهم الله ولا تأمنهم إذا أخانهم الله ولا تعزهم بعد إذ أذلهم الله. وروى الإمام أحمد عن عمر أنه قال: لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم يستحلون الرُّشاء في دينهم ولا تحل الرُّشاء. وقال سعيد بن منصور في سننه ثنا هشيم عن العوام عن إبراهيم التيمي قال قال عمر لا ترفعوهم إذا وضعهم الله ولا تعزوهم إذ أذلهم الله يعني أهل الكتاب كلهم أئمة لكن إبراهيم لم يلق عمر، وقطع الشيخ تقي الدين في موضع آخر بأنه يجب على ولي الأمر منعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام، وقال أيضًا الولاية إعزاز وأمانة وهم يستحقون للذل والخيانة، والله يغني عنهم المسلمين، فمن أعظم المصائب على الإسلام وأهله أن يجعلوا في دواوين المسلمين يهوديًا أو سامريًّا أو نصرانيًّا، وقال أيضًا: لا يجوز استعمالهم على المسلمين فإنه يوجب من إعلائهم على المسلمين خلاف ما أمر الله ورسوله، والنبي قد نهى أن يُبدأوا بالسلام وأمر إذا لقيهم المسلمون أن يضطروهم إلى أضيق الطرق، وقال الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وقد منعوا من تعلية بنائهم على المسلمين فكيف إذا كانوا ولاة على المسلمين فيما يقبض منهم ويصرف إليهم وفيما يؤمرون به من الأمور المالية ويقبل خبرهم في ذلك فيكونون هم الآمرين الشاهدين عليهم؟ هذا من أعظم ما يكون من مخالفة أمر الله ورسوله، وقد قدم أبو موسى على عمر رضي الله عنهما بحساب العراق فقال ادع يقرؤه فقال إنه لا يدخل المسجد فقال لم؟ قال لأنه نصراني، فضربه عمر بالدواة فلو أصابته لأوجعته وقال لا تعزوهم إذ أذلهم الله ولا تصدقوهم إذ كذبهم الله ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، وكتب إليه خالد بن الوليد إن بالشام كاتبًا نصرانيًّا لا يقوم خراج الشام إلا به، فكتب إليه لا تستعمله فأعاد عليه السؤال وإنا محتاجون إليه، فكتب إليه مات النصراني والسلام، يعني قَدِّر موته، فمن ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه، إلى أن قال وقد يشيرون عليهم بالرأي التي يظنون أنها مصلحة ويكون فيها من فساد دينهم ودنياهم ما لا يعلمه إلا الله وهو يتدين بخذلان الجند وغشهم يرى أنهم ظالمون، وأن الأرض مستحقة للنصارى ويتمنى أن يمتلكها النصارى. وقال أيضًا: كان صلاح الدين وأهل بيته يذلون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحدًا، ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد، وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل حتى قام بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين وحدثت حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله فإن الله تعالى يقول: {ولينصرن الله من ينصره}. إلى أن قال: وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما في بلاد المسلمين والمسلمون ولله الحمد مستغنون عنهم في دينهم ودنياهم، ففي ذمة المسلمين من علماء النصارى ورهبانهم من يحتاج إليهم أولئك النصارى وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون مع أن افتداء الأسراء من أعظم الواجبات وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم لا لنفع المسلمين، ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة فإنهم ارغب الناس في المال ولهذا يتقامرون في الكنائس وهم طوائف كل طائفة تضاد الأخرى ولا يشير على ولي الأمر بما في إظهار شعارهم في دار الإسلام أو تقوية أيديهم بوجه من الوجوه إلا رجل منافق أو له غرض فاسد أو في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين. وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا وليعتبر بسيرة من والي النصارى كيف أذله وكبته إلى أن قال: وثبت في الصحيح عن النبي أن مشركًا لحقه ليقاتل معه فقال له: «إني لا أستعين بمشرك»، وكما أن استخدام الجند المجاهدين إنما يصلح إذا كانوا مؤمنين فكذلك الذين يعاونون الجند في أموالهم وأعمالهم إلى أن قال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}. وذكر سبب نزولها ثم قال وقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وربما يطلعون على ذلك من أسرارهم وعوراتهم وغير ذلك وقد قيل: كل العداوات قد ترجى مودتها إلا عـداوة من عاداك في الدين انتهى كلامه. وقد روي عن النبي أنه قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيًا» رواه الإمام أحمد والنسائي وعبد ابن حميد وغيرهم، ومعنى قوله: «ولا تستضيئوا بنار المشركين» أي لا تستشيروهم ولا تأخذوا آراءهم. جعل الضوء مِثْلا الرأي عند الحيرة هذا معنى قول الحسن رواه عبد بن حميد، واحتج الحسن بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}. وكذا فسره غيره، وفسر الحسن: «ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيًا» أي لا تنقشوا فيها محمدًا وفسره غيره محمد رسول الله لأنه كان نقش خاتم النبي، وفي حديث عمر: «لا تنقشوا في خواتيمكم العربية» وعن ابن عمر أنه كان يكره أن ينقش في الخاتم القرآن. وقال ابن عبد البر قال ابن القاسم سئل مالك عن النصراني يستكتب؟ قال لا أرى ذلك، وذلك أن الكاتب يستشار، فيستشار النصراني في أمر المسلمين؟ ما يعجبني أن يستكتب، وذكر ابن عبد البر أنه استأذن على المأمون بعض شيوخ الفقهاء فأذن له، فلما دخل عليه رأى بين يديه رجلًا يهوديًا كاتبًا له عنده منزله وقربه لقيامه بما يصرفه فيه ويتولاه من خدمته فلما رآه الفقيه قال: وقد كان المأمون أومأ إليه بالجلوس، فقال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إنشاد بيت حضر قبل أن أجلس؟ قال نعم، فأنشده: وأشار إلى اليهودي، فخجل المأمون ووجم ثم أمر حاجبه بإخراج اليهودي مسحوبًا على وجهه فأنفذ عهدًا بإطراحه وإبعاده وأن لا يستعان بأحد من أهل الذمة في شيء من أعماله. قال ابن عبد البر كيف يؤتمن على سر، أو يوثق به في أمر، ومن وقع في القرآن، وكذَّب النبي عليه السلام؟ وقد أمر الناصر لدين الله أن لا يستخدم في الديوان بأحد من أهل الذمة، فكتب إليه عن أبي منصور بن رطينًا النصراني إنا لا نجد كاتبًا يقوم مقامه، فقال نقدِّر أن رطينًا مات هل كان يتعطل الديوان؟ فحينئذ أسلم وحسن إسلامه اهـ. ثانيًا: حكم الاستعانة بالكفار على الدولة المسلمة أو الطائفة المسلمة كأهل البغي. أهل البغي طائفة من المسلمين تخرج على الإمام الشرعي بتأويل سائغ ولا يكونون كفارًا بمجرد خروجهم لأنهم ما خرجوا إلا بتأويل سائغ بل ولا يكونون فساقًا عند بعض العلماء. قال الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ما نصه: وأما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولًا ولم يتبين له أنه باغ بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئًا في اعتقاده. لم تكن تسميته (باغيًا) موجبة لأثمه، فضلًا عن أن توجب فسقه. والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم لا عقوبة لهم بل للمنع من العدوان ويقولون إنهم باقون على العدالة لا يفسقون. اهـ. ومما استدل به القائلون بعدم تفسيق أهل البغي قوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}. وجه الدلالة من الآيات أنه قال {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} ثم إن البغاة إذا خرجوا على الإمام والحالة هذه وجب عليه أن يدعوهم ويسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ذكروا شبهة كشفها، فإن استمروا في الخروج بعد ذلك استعان بالله وقاتلهم، ولا يجوز له أن يستعين بالكفار على قتالهم كما لا يجوز الاستعانة بالكفار على قتال الدولة المسلمة التي حصل بينه وبين حاكمها نزاع أو خلاف لأن في الاستعانة بالكافرين تسليطًا لهم على المسلمين ولا يجوز لأحد أن يسلط كافرًا على مسلم {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا}. وقد اتفق من يعتد بقوله من علماء الأمة وفقهائها على أنه لا يجوز للحاكم المسلم أن يستعين بالدولة الكافرة على المسلمين بأي حال من الأحوال وذلك للأمور التالية: 1- ما قدمناه من النصوص من الكتاب والسنة وأقوال العلماء من منع الاستعانة بالكفار على الكفار فإن كان هذا هو الراجح- أعني منع استعانة المسلمين بالكفار على الدولة الكافرة فمن باب أولى منع الاستعانة بهم على الدولة المسلمة. 2- الكفار أعداء للمسلمين عداوة عقيدة ودين، ومعلوم أن الكفار إذا مكنوا من قتال المسلمين انتقموا منهم واستأصلوا شأفتهم لما يضمرون لهم من البغضاء والعداء. قال تعالى: {إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءًا ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون}. وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالًا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر- إلى قوله- وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ}، وقال تعالى: {ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة}. 3- وبالنسبة لأهل البغي فالعلة في جواز قتالهم هي كفهم وردهم إلى الطاعة لا قتلهم وإبادتهم وبهذا يعلم أنه لا حاجة إلى الكفار فلم تجز الاستعانة بهم. 4- أن الاستعانة بالكفار في تلك الحال موالاة لهم وركون إليهم وقد قال تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}. 5- ثم إن في الاستعانة بهم تعزيزًا وتقوية لبعض المسلمين على بعض وإشعالًا للحروب بينهم ودافعًا لهم على التنازع على الرئاسة والملك وذلك مالا يقره الشرع بحال بل إنه يدعو المسلمين في تلك الحال إلى الإصلاح فيما إذا كانوا جميعًا طلاب حق أو ملك أو رئاسة فإذا كانت إحدى الطائفتين المتحاربتين هي المحقة فالمقصود من قتالها للأخرى دفع بغيها لا إبادتها وذلك يتحقق بدون الاستنصار بالكفار. 6- والاستعانة بالكفار تمكين لهم في كسر شوكة المسلمين والقضاء عليها بل ربما إبادتهم أو طردهم من بلادهم والاستيلاء عليها وكفى بالتاريخ شاهدًا على ما نقول فالمسلمون في الأندلس مثلًا وقعت بينهم الفتن العظيمة واستنصر بعضهم بالنصارى على إخوانهم المسلمين حتى هلكوا جميعًا وزال سلطان المسلمين هناك والأمر لله من قبل ومن بعد. 7- والاستعانة بهم كذلك سلم لهم للتدخل في شؤون المسلمين الخاصة والاطلاع على عورات المسلمين ومكامن الضعف والقوة فيهم الأمر الذي قد يجعلهم سادات وحكام يحتكم إليهم المسلمون بل ربما آل الأمر بأولئك إلى حشد جيوشهم وسلاحهم في بلاد المسلمين باسم المحافظة على الأمن وفض النزاع ونصرة المستضعفين والمظلومين وذلك بمجرد توجيه أدنى إشارة إليهم للنجدة والنصرة من بعض من في قلوبهم مرض من المسلمين اهـ. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن من صور الاستعانة بالكفار على أهل البغي ما يكون كفرًا. قال الإمام أبو محمد علي بن حزم في المحلى: وأما من حملته الحمية من أهل الثَّغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين أو على أخذ أموالهم أو سبيهم فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق ولا يكون بذلك كافرًا لأنه لم يأت شيئًا وجب به عليه كفرٌ قرآن أو إجماع وإن كان حكم الكفار جاريًا عليه فهو بذلك كافر على ما ذكرنا فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافرًا والله أعلم . وهذا الحكم أعني منع الاستعانة بالكفار شامل للكفار الحربيين وأهل الذمة والمرتدين قال الإمام أبو محمد علي بن حزم أيضًا: هل يستعان على أهل البغي بأهل الحرب أو بأهل الذمة أو بأهل بغي آخرين قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا فقالت طائفة لا يجوز أن يستعان عليهم بحربي ولا بذمي ولا بمن يستحل قتالهم مدبرين وهذا قول الشافعي رضي الله عنه وقد ذكرنا في كتاب الجهاد قول رسول الله : «إنا لا نستعين بمشرك» وهذا عموم مانع من أن يستعان بهم في ولاية أو قتال أو شيء من الأشياء إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة بهم فيه كخدمة الهداية أو الاستئجار أو قضاء الحاجة وغير ذلك ممالا يخرجون فيه عن الصغار والمشرك يقع على الذمي والحربي .اهـ. أما من قال من المنتسبين للعلم بجواز الاستعانة بالكفار على قتال أهل البغي عند الضرورة فليس له حجة ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر صحيح. قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: أما استنصار المسلم بالمشرك على الباغي فلم يقل بهذا إلا من شذ واعتمدها القياس ولم ينظر إلى مناط الحكم والجامع بين الأصل وفرعه ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة واعتمد في نقله وفتواه فقد تتبع الرخص ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها المستفاد من حديث الحسن وحديث النعمان بن بشير .اهـ. |